فصل: تفسير الآيات (14- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 13):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}
ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} أي: إلا من عجز عن ذلك لفقده {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فما أمر بها إلا من قدر عليها.
ثم قال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
فنسخ وجوب ذلك عنهم.
وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدم دينارا صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال، ثم أنزلت الرخصة.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال علي، رضي الله عنه: آية في كتاب الله، عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترى، دينار؟». قال: لا يطيقون. قال: «نصف دينار؟». قال: لا يطيقون. قال: «ما ترى؟» قال: شَعِيرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك زهيد» قال: قال علي: فبى خَفَّف الله عن هذه الأمة، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}
ورواه الترمذي عن سفيان بن وَكِيع، عن يحيى بن آدم، عن عبيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إلى آخرها قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترى، دينار؟» قلت لا يطيقونه. وذكره بتمامه، مثله، ثم قال: «هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه». ثم قال: ومعنى قوله: «شعيرة»: يعني وزن شعيرة من ذهب.
ورواه أبو يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، به.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إلى {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة، فلما نزلت الزكاة نسخ هذا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، عليه السلام. فلما قال ذلك صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فوسع الله عليهم ولم يضيق.
وقال عكرمة والحسن البصري في قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} نسختها الآية التي بعدها {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إلى آخرها.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتاده ومقاتل ابن حيان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه بالمسألة، فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وقال مَعْمَر، عن قتادة: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إنها منسوخة: ما كانت إلا ساعة من نهار.
وهكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة.

.تفسير الآيات (14- 19):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
يقول تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 143] وقال ها هنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني:
اليهود، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن. ثم قال: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أي: هؤلاء المنافقون، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود.
ثم قال: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يعني: المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولاسيما في مثل حالهم اللعين، عياذًا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله له أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.
ثم قال: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم؛ ولهذا قال تعالى {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي: في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم قال: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لن يدفع ذلك عنهم بأسا إذا جاءهم، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
ثم قال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي: يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا، {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: يحلفون بالله عز وجل، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس، فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة؛ ولهذا قال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: حلفهم ذلك لربهم، عز وجل.
ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فأكد الخبر عنهم بالكذب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، عن سمَاك بن حرب، حدثني سعيد بن جُبَير؛ أن ابن عباس حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حُجَره، وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل، قال: «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه». فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال؛ «علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟»- نفر دعاهم بأسمائهم- قال: فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا له واعتذروا إليه، قال فأنزل الله، عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين، عن سماك، به ورواه ابن جرير، عن محمد بن المثني، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن سماك، به نحوه وأخرجه أيضًا من حديث سفيان الثوري، عن سماك، بنحوه. إسناد جيد ولم يخرجوه.
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 23، 24]
ثم قال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي: استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله، عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه؛ ولهذا قال أبو داود:
حدثنا أحمد ابن يونس، حدثنا زائدة، حدثنا السائب بن حُبَيش، عن مَعْدان بن أبي طلحة اليَعْمُري، عن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية». قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة.
ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} يعني: الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. ثم قال تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

.تفسير الآيات (20- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله، يعني: الذين هم في حَدٍّ والشرع في حَدٍّ، أي: مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية، {أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ} أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب، الأذلين في الدنيا والآخرة.
{كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولا يبدل، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51، 52] وقال هاهنا {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه. وهذا قدر محكم وأمر مبرم، أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي: لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] الآية، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]
وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قتل أباه يوم بدر؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة، رضي الله عنهم: «ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته».
وقيل في قوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} في الصديق، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في عمر، قتل قريبا له يومئذ أيضًا، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، والله أعلم.
قلت: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله أن يهديهم.
وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكني من فلان- قريب لعمر- فأقتله، وتمكن عليًا من عقيل، وتمكن فلانًا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين.... القصة بكاملها.
وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي: من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان، أي: كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته.
وقال السدي: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} جعل في قلوبهم الإيمان.
وقال ابن عباس: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي: قواهم.
وقوله: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
وفي قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
وقوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: هؤلاء حزبُ الله، أي: عباد الله وأهل كرامته.
وقوله: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم في الدنيا والآخرة، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان. ثم قال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
وقد قال بن أبي حاتم: حدثنا هارون بن حميد الواسطي، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة، عن رجل قد سماه- يقال هو عبد الحميد بن سليمان، انقطع من كتابي- عن الذَيَّال بن عباد قال: كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: أعلم أن الجاه جاهان، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه، وأنهم الخامل ذكرهم، الخفية شخوصهم، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. «إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا، وإذا حضروا لم يُدْعَوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة» فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
وقال نُعَيم بن حَمّاد: حدثنا محمد بن ثور، عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}» قال سفيان: يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان.
ورواه أبو أحمد العسكري.